عدد السور المدنية في القرآن

عدد السور المدنية في القرآن الكريم

يشكل القرآن الكريم المعجزة الكبرى التي نزلت على النبي محمد ﷺ، وهو كتابٌ يحتوي على 114 سورة، تنقسم من حيث مكان نزولها إلى سور مكية وسور مدنية. وتكمن أهمية هذا التقسيم في تحديد السياق الزمني والاجتماعي والتشريعي لنزول الآيات، مما يعين في فهم دقيق للخطاب الإلهي. يُقصد بالسور المدنية تلك التي نزلت بعد الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة، سواء نزلت فعليًا في المدينة أو خارجها ما دام نزولها قد تم بعد هذه المرحلة المفصلية في السيرة النبوية.

في هذا المقال المطول، نعرض دراسة شاملة عن عدد السور المدنية، خصائصها، تميزها الموضوعي، وأهميتها في البناء التشريعي للإسلام، مع إبراز الفروق الدقيقة بينها وبين السور المكية، وذلك في إطار منهجي وتاريخي وعلمي دقيق.

عدد السور المدنية

العدد المتفق عليه من قبل علماء التفسير والقراءات للسور المدنية في القرآن الكريم هو 28 سورة. وهذا يعني أن 86 سورة من مجموع سور القرآن الكريم مكية. وقد اعتمد العلماء في هذا التقسيم على سياقات النزول الزمني وليس المكاني، فالعبرة في كون السورة مكية أو مدنية هو كونها نزلت قبل أو بعد الهجرة، لا بكونها نزلت داخل مكة أو المدينة.

الجدول التالي يُلخص قائمة السور المدنية بحسب ما عليه جمهور العلماء:

ملاحظة: تم تكرار بعض السور في الجدول أعلاه لأغراض تفسيرية وفنية توضيحية حول النزول المرحلي وبعض الآراء التي اختلف فيها العلماء، كما سيأتي بيانه في فقرات لاحقة.

المعايير المعتمدة لتحديد السور المدنية

يعتمد علماء التفسير في تحديد مكية أو مدنية السور على عدد من الضوابط والمعايير الدقيقة، منها:

1. زمن النزول: كل ما نزل قبل الهجرة يُعد مكيًا، وكل ما نزل بعد الهجرة يُعد مدنيًا، بغض النظر عن مكان النزول.

2. الموضوعات: السور المدنية غالبًا ما تتناول الأحكام التفصيلية والعلاقات الاجتماعية والسياسية، بينما السور المكية تركز على العقيدة والتوحيد.

3. القرائن الداخلية: مثل مخاطبة أهل الكتاب أو الإشارة إلى الجهاد أو التعامل مع المنافقين، وهي مظاهر ارتبطت بالمجتمع المدني بعد تأسيس الدولة الإسلامية.

4. أقوال الصحابة والتابعين: اعتماد أقوال نقاد القرآن من أهل السلف حول سياق نزول السور.

5. المنهج السردي واللغوي: أسلوب الخطاب في السور المدنية غالبًا ما يكون هادئًا تشريعيًا منطقيًا، بخلاف أسلوب التحدي والجدال في السور المكية.

السمات الخاصة بالسور المدنية

السور المدنية تتسم بعدة خصائص تميزها عن السور المكية، ويمكن إجمالها في النقاط التالية:

1. الطابع التشريعي

يكثر في السور المدنية تناول القوانين والأحكام مثل المواريث، الحدود، الزواج والطلاق، القتال، العلاقات بين المسلمين وأهل الكتاب، والتشريعات المالية كالزكاة والإنفاق.

2. الخطاب الموجه للمجتمع الإسلامي

تُخاطب السور المدنية الجماعة المسلمة، لا الأفراد، وهذا يتماشى مع تحول الإسلام من دعوة سرية أو فردية في مكة إلى كيان سياسي واجتماعي وديني في المدينة.

3. ظهور المنافقين

لم يكن للنفاق السياسي وجود في المرحلة المكية، لكنه برز في المدينة بسبب تحول الإسلام إلى قوة نافذة، فكان من خصائص السور المدنية كشف خطر المنافقين والتحذير من نواياهم.

4. تفصيل العبادات

بينما ركزت السور المكية على العقيدة والتوحيد، جاءت المدنية لتفصيل العبادات مثل الصلاة، الصيام، الحج، الزكاة، وغيرها من أركان الإسلام.

5. التعامل مع أهل الكتاب

الوجود اليهودي والمسيحي في المدينة وما حولها فرض حضورًا قويًا لمسائل الحوار والعلاقة مع أهل الكتاب، ما انعكس بوضوح في سور مثل آل عمران والمائدة.

الفروق بين السور المكية والمدنية

الجدال حول بعض السور ذات التصنيف المختلف

في بعض السور وقع اختلاف في تحديد مكيّتها أو مدنيتها، مثل:

• سورة الأنفال: مدنية باتفاق، لكنها تناولت غزوة بدر، ما جعل بعض الآيات تحمل طابعًا قتالياً مبكرًا.

• سورة الرعد: اختلف فيها العلماء؛ قال البعض إنها مكية، وقال آخرون إنها مدنية.

• سورة الزلزلة: رغم قصرها وموضوعها الأخروي، إلا أنها مدنية.

المرجح عند المحققين من أهل العلم هو الأخذ بزمن النزول كأساس للتصنيف، وعدم الاكتفاء بالمكان أو الطابع الأسلوبي فقط.

أهمية دراسة السور المدنية

فهم السور المدنية لا يخدم فقط فقه التشريع الإسلامي، بل يساعد في:

• تحليل تطور المجتمع الإسلامي: من جماعة مستضعفة إلى دولة قائمة.

• فهم التدرج التشريعي: حيث جاءت الأحكام على مراحل، مثل تحريم الخمر، وفرض الحجاب، وأحكام الجهاد.

• استيعاب السياق السياسي والاجتماعي للرسالة: ما يسهم في فهم أعمق للواقع القرآني.

الخاتمة

تمثل السور المدنية جزءًا محوريًا في القرآن الكريم، إذ إنها تشكل البنية التشريعية للمجتمع الإسلامي، وتُبرز الجوانب السياسية والاجتماعية والدينية التي طبعت حياة المسلمين بعد الهجرة. هذه السور، وعددها 28، تقدم وثيقة شاملة للمبادئ التي حكمت بناء الدولة الإسلامية الأولى، وتوفر للأجيال اللاحقة رؤية متكاملة عن مفهوم العدل، وتنظيم العلاقات، وضبط المعاملات، في ظل مرجعية إلهية عادلة وشاملة.

المراجع:

1. الزرقاني، محمد عبد العظيم، مناهل العرفان في علوم القرآن، دار الفكر، بيروت.

2. السيوطي، جلال الدين، الإتقان في علوم القرآن، تحقيق: مركز البحوث والدراسات القرآنية.